Image Not Found

التحديات التي تواجه عمان: خصخصة الشركات الحكومية وإقتصاد السوق (٣)

مرتضى بن حسن بن علي – الشبيبة

ألأصل في الدولة أنها لا تمتلك أي شركات الا للضرورة القصوى، وفي الوقت المناسب تقوم بخصخصتها، وتستخدم حقها في السيادة لتمويل أنشطتها لمصلحة كافة المواطنين، ومن ضمنها الضرائب المختلفة، مثل الضرائب على التي تحصلها على دخل ألأفراد بشكل تصاعدي.

وصلت الحكومات في أقطار عديدة إلى قناعات مفادها أن إمتلاكها لوحدات الانتاج تسبب منافسة غير عادلة للقطاع الخاص، كما تغيب الكفاءة في تقديم السلع والخدمات، وربما تؤدي الى الفساد.عدد متزايد من الدول أفاقت على حقيقة مفادها إن الشركات الحكومية لا بد من إدارتها، على طريقة القطاع الخاص، وقوانين السوق.والنظريات الاقتصادية الحديثة، حددت وظائف الدولة بالادارة العامة والأمن الداخلي والدفاع عن الحدود، والتشريع وتقديم الخدمات التعليمية والصحية.

بعد حصول الكساد العالمي الكبير في عام ١٩٢٩م، أصدر الإقتصادي البريطاني “جون كينز” كتابه المشهور في عام ١٩٣٦م، متضمنا ارائه في كيفية إدارة ألإقتصاد، والتي أحدثت تغييرا جوهريا في الفكر الاقتصادي.

ولإخراج الاقتصاد من أزمته، دعى كينز إلى قيام الدولة بإلانفاق على المشروعات العامة، وتوفير وظائف للعمال، وتمكينهم من الحصول على دخول مالية، تسمح لهم بالانفاق على شراء السلع والخدمات، والذي يؤدي إلى تحريك عجلة الاقتصاد، وتشغيل المشاريع المعطلة.وعندما تربح الشركات، توظف المزيد من القوى العاملة وتحصل الحكومة على الضرائب، وإقتنعت حكومات عديدة بفشل الادارة الحكومية، وضرورة التوجه إلى إقتصاد السوق، وهو النظام الموجود نظريا في عمان.

إقتصاد السوق، لكي يعطي مفعوله، لا بد أن يتضمن مجموعة متكاملة من المؤسسات القانونية والتنظيمية، وتحتل فيها الدولة مركزا رئيسيا وليس إلغاء دورها، او إضعاف قوتها، بل زيادة قوتها وفاعليتها وتأثيرها.وقد أثبتت التجارب التاريخية إن توسع دور الدولة، لم يترتب عليه زيادة في فاعليتها، بقدر ما أسهم في ترهلها، وضياع هيبتها، ولذلك فان العودة الى “إقتصاد السوق” هو إعادة الدولة إلى دورها الطبيعي في السيادة، والسيطرة والرقابة والإشراف، فضلا عن تقديم الخدمات الرئيسية الأخرى بشكل مرضي عن طريق السوق.وعدم قيام الحكومة بإمتلاك الشركات ليس جديدا، فقد سبق وأن دعا أبن خلدون، في مقدمته،الحاكم، قبل نحو ٦٥٠ سنة، إلى عدم الجمع بين “التثمير والامارة”، أي الجمع بين الحكم والنشاط ألإقتصادي، لأن في ذلك مفسدة لكليهما.فعندما يكون الحاكم تاجرا في السوق، ويشرِّع القوانين، فإنها ستكون متحيزة، وبما يخدم مصالحه، وينزع عنه ألبحث عن المصلحة العامة، كما شدّد إبن خلدون على وظيفة الحاكم في ضبط الاسواق ونزاهة التجارة ومحاربة الغش.السوق لا تعمل، الا من خلال دولة قوية، ودونها تتحول الى غابة يقوم فيها القوى بإزالة الضعيف. ولم يكن من الصدف التاريخية، أن نشأة السوق في شكله المعاصر بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر بعد ان سبقه ومهد له ظهور الدولة الحديثة، التي بدأت تتشكل ملامحها بعد حرب الثلاثين عاما، بين عامي “١٦١٨-١٦٤٨”، في ألمانيا ووسط اوروبا، والتي كانت سلسلة من الصراعات الطائفية، بين البروتستانت والكاثوليك في ظاهرها، ولكنها في حقيقتها كانت حربا للسيطرة على الدول، وأنتهت بصلح “ويستفاليا” الذي انهى مرحلة الصراع الديني، وفتح المجال للحرية والتسامح الدينين، وبداية ظهور الدولة الحديثة.

ولكن إقتصاد السوق لا يتحقق بمجرد نقل ملكية الوحدات الحكومية الى القطاع الخاص، فألأمر يتطلب توفير بنية أساسية قانونية ومؤسسات للرقابة وتوفير الشفافية، تسبق أو تصاحب عمليات الخصخصة.ويُعتبر الاستقرار القانوني ووضوح المراكز والحقوق القانونية بشكل كامل، -امرا لا غنى عنه-، والذي لا يتحقق دون قضاء مستقل وعادل وكفء، وتوفير الضمانات لسرعة الفصل في القضايا، وجدية تنفيذ الأحكام، إلى جانب توفير المنافسة ومحاربة الاحتكارات، وتنظيم الاسواق المالية، ومنع التضارب في المصالح عند اتخاذ القرارات، وإنسياب للمعلومات والبيانات الكافية والمستمرة، ومن ضمن ذلك، سلامة البيانات المالية التي تصدرها الشركات، مع المحاسبة والرقابة.أما الشفافية، فهي ضرورة إعلان كل ما يتعلق باجراءات الخصخصة على الجمهور بشكل واضح وصريح ومفصل، فالامر متعلق بالتصرف في اصول مملوكة -نظريا -للشعب، وبالتالي فيجب أن تكون كل الاجراءات المتبعة معلنة، مع وجود برنامج متكامل للخصخصة، متضمنا كل البيانات المناسبة، بما في ذلك مبررات تخصيصها، والمواعيد المحددة، والمعايير المتخذة أساسا للتقييم، وشروط الأهلية للتقدم للشراء، وغير ذلك من الاعتبارات.

أهمية المواعيد تكمن بوجود طاقة محدودة للاقتصاد الوطني من حيث القدرة الشرائية، لشراء الاصول المعروضة للبيع، وتركيز بيع الكثير من الاصول في فترة قصيرة، قد يمنع العديد من المواطنين، من شراء هذه الاصول، او الاضطرار لبيعها بأسعار منخفضة، والغرض من هذه الشفافية هو توفير الفرصة لطرح مختلف الاّراء وتحقيق نوع من التوافق العام حول جدوى وفائدة برنامج الخصخصة، الامر الذي يطرح مسألة المشروعية على بساط البحث.

والمقصود من المشروعية، ليس فقط توافر “الشرعية القانونية”،التي تقتصر على الاتفاق مع نصوص القوانين القائمة، فالمشروعية مفهوم سياسي إجتماعي يجاوز المفهوم القانوني، فمن المهم توافر نوع من التوافق العام بقبول مبدأ عمليات الخصخصة، باعتبارها عادلة ومنصفة، وانها تتم تحقيقا للمصلحة العامة، ولم يشوبها عملية محاباة او تمييز، بحيث يتمتع الجميع ازاءها بالمساواة في الفرص، وبوجه خاص وجود القناعة بأن البيع قد تم بقيمة عادلة، وان الثمن المعروض مناسب ومقبول، وإن الاجراءات المتبعة قد اتاحت فرصا متكافئة لجميع المعنيين بالأمر، ومن دون توافر هذه”المشروعية”، فيخشى ان يؤدي فقدانها الى إنعدام الثقة في مصداقية ” اقتصاد السوق”، وبالتالي انهيار أساسه.ولا يكفي في هذا الصدد الادعاء بان الاجراءات المتبعة قد راعت نصوص قانون قطاع الاعمال العام، وانه تمت الموافقة على إجراءات البيع من الجمعيات العمومية للشركات القابضة، باعتبارها مالكة لأصول القطاع العام، فملكية الشركات القابضة لأصول القطاع العام، هي مجرد مجاز قانوني، والملكية الحقيقية إنما هي للشعب، ولذلك فمن الضروري الحصول على شكل من أشكال التوافق العام حول مبدأ وإجراءات الخصخصة، ودون ذلك تفقد الخصخصة مشروعيتها، حتى اذا اتفقت مع ظاهر القانون.